إذا كان القرن العشرين في أوروبا قرناً حضَرياً، فإنّ القرن الـ 21 يشير إلى مرحلة انتقالية عالمية نحو حقبة حضرية. ففي العام 2008، وللمرة الأولى في التاريخ، تجاوز عدد سكان المناطق الحضرية وشبه الحضرية عدد السكان الريفيين. ينتقل مليون شخص أسبوعياً للسكن في مناطق مدينية. التحضُّر السريع يجعل أجزاء العالم أقرب إلى بعضها، في ما يشبه سلسلة واسعة من الخلايا المدينية. غير أنه ضمن المدن نفسها، يزداد السكان تباعُداً.
التظاهرات حول العالم، من الانتفاضات العربية وحملة حركة "احتلوا وول ستريت"، وحركة "المستنكِرون" Los Indignados في إسبانيا، وكلها مدينية، أكّدت مركزية المساحة والمكانة الحضريّتين كمواقع للتغيير الاجتماعي ــ السياسي والاقتصادي.
أدّى التحضر السريع للعالم إلى بناء مدن لم تتأسّس حول مستخدمي الحيّز المديني، بل لخدمة ضرورات جني الأرباح. لقد حاول الأثرياء وأصحاب النفوذ بناء وتشكيل هندسة ومشهد عام للسيطرة وللحصرية، بشكل يؤبّد قوتهم وثروتهم. تمّ نحت انعدام العدالة الاجتماعية المتزايد داخل الأشكال المكانية للمدن في جميع أنحاء العالم. قد يكون سكّان ومستخدمو الحيّز المديني أبرياء، إلا أن المموِّلين والسياسيين والمحترفين الذين يبنون مدينةً لا يمكن أن يكونوا أبرياء أبداً.
لفهم الانتفاضات العربية والاضطراب المستمر في المنطقة، من المهم أخذ الفضاء الجغرافي في الاعتبار، وتحديداً إنتاج هذا الفضاء ومساراته. من شأن تحليل الانتفاضات العربية من خلال الزاوية المدينية أن يسلّط الضوء على إنتاج نخب الدولة الرأسمالية النيوليبرالية و"الكليبتوقراطية" (النهَّابة) للمساحة الجغرافية، وعلى النتائج اليومية للمستويات العالية من تمركز الثروة والقوة. وبشكل موازٍ، من شأن التحليل المديني أن يكشف عن الدينامية التمكينية والمذهلة التي طرأت عندما التأم السكان الحضريّون، لحظة ظهر أنّ الأنظمة أنجزت تسييج وإقفال مناطقها المحظيّة، التأموا في أماكن عامة في كل المنطقة العربية، متجاوزين الطبقات والدين والانقسامات الاثنية، مؤمّنين الحماية لمدنهم المجزأة. في الواقع، إنّ إنتاج المساحة الجغرافية في القاهرة، يقدم مثالاً خاصاً ومذهلاً عن هذه الظاهرة. سياسيون ورجال أعمال مرتبطون بإدارة وإنتاج البيئة الاجتماعية القائمة في مصر، كانوا من أوائل وأبرز مَن تم اعتقالهم غداة انطلاق انتفاضة 25 كانون الثاني/يناير 2011. أصبحت عقود الأراضي التي تعطيها الحكومة لمقاولين من القطاع الخاص تحت المجهر فوراً. لقد أنتج نظام مبارك بيئة اجتماعية وديموغرافية من خلال إطار عمل "سينيكي" وباذخ.
في لبّ العقل "الجغرافي" للنظام المصري، كان هناك هدف نقل الفقراء الحضريين من وادي النيل إلى الصحراء. لقد بُني نظام مبارك على أساس ارث أنور السادات ومبادرته الاقتصادية القائمة على "الانفتاح". ويقع وسط القاهرة في صميم المخطط النيوليبرالي لمشروع السادات، الذي رغب بنقل السكان الحاليين إلى مدن صحراوية عند أطراف القاهرة، وترميم وسط المدينة لتكون منطقة "معقمة" مخصصة للأعمال التجارية.
وقد لاحظ محمد الشاهد، صاحب مدونة "cairo observer" أنّ السادات عقد النية على استبدال السكان وبيئتهم المبنيّة في مناطق كبولاق، ليُحلّ مكانهم "منطقة جديدة للأعمال لعرض إعادة تموضع الاقتصاد المصري مع الرأسمالية العالمية".
لقد فشل السادات في نقل السكان الحضريين من وسط القاهرة إلى الأطراف. غير أن مبارك واصل مشروع الهجوم على منطقة بولاق ومناطق مشابهة. وفي حقبة مصر ما بعد مبارك، لم تتوقف محاولات نقل السكان من وسط القاهرة. وقد قام أخيراً رجل الأعمال نجيب سويرس وعائلة شوكشوبي السعودية، أصحاب العمارات البشعة المسماة "أبراج النيل سيتي"، بتهديد سكان رملة بولاق المحاذين لها بطردهم من أرضهم. والعنف الذي وقع مؤخراً في المكان المقرر لبناء تلك الأبراج، والذي نتج عنه سقوط قتيل، لم يأتِ من فراغ، بل هو محطة فاصلة في معركة أوسع بين السكان الحضريين الفقراء لمنطقة بولاق من جهة، والدولة ونخبة رجال الأعمال من جهة ثانية، حول الحق في المدينة.
ورغم مرور 40 عاماً على بدء معركة تخفيف الكثافة السكانية للقاهرة وتحويل أحياء منها إلى الأطراف من قبل الدولة ومستثمرين، فلم يمكن خفض كثافة وسط القاهرة، ولم يفسَح المجال للرأسمال المعولم بأن يحتل مكان هؤلاء. لقد أظهر سكان منطقة بولاق ومناطق أخرى من عشوائيات القاهرة مقاومة ملحوظة في مواجهة المحاولات الحكومية المنهجية الهادفة إلى سلبهم الأراضي وتفكيكها. وحتى عندما نجحت الحكومة في اقتلاع سكان المناطق العشوائية ونقلهم إلى مدن صحراوية، فغالباً ما عاش الانتصار الحكومي لوقت قصير. ذلك أن سكان المدن الصحراوية سرعان ما عادوا إلى وسط المدينة. فالنقص في وجود وظائف مناسبة، وفي وسائل النقل، وفي الحياة الاجتماعية، لم يترك لسكان المدن الصحراوية خياراً سوى المغادرة. بالتالي، واصلت القاهرة تكثفها الجغرافي والديموغرافي السريعين.
إن انتقال الحكومة ورأس المال إلى الأطراف، أسفر عن تآكل سريع للنسيج الحضري في وسط المدينة، وعن ازدياد الطابع العشوائي للبيئة الاجتماعية القائمة، في وقت تركت الدولة السكان الحضريين ليجدوا حلولهم الخاصة لأزمة السكن. إنّ ازدياد المساكن العشوائية في القاهرة كان رداً مباشراً ولافتاً على مغادرة الحكومة وسط المدينة. تشير التقديرات إلى أن المساكن العشوائية تحتلّ أكثر من 65 في المئة من البيئة الديموغرافية الموجودة، ما يقارب 12 مليون شخص، وما يجعل القاهرة تسجل إحدى أعلى نسب الكثافة السكانية المدينية في العالم.
إنّ غياب الدولة في مناطق عشوائية، أرسى عبئاً ثقيلاً على الفقراء الحضريين. معظم المناطق العشوائية غير متصلة بالبنى التحتية الأساسية، وتعاني نقصاً في المياه النظيفة ومياه الصرف الصحّي، وتفتقد إلى مرافق أساسية أخرى. مع ذلك، فإنّ سكان المناطق العشوائية كانوا فعَّالين في تنظيم أنفسهم حول نشاطات كان يجدر بالدولة أن تقوم بها. إنّ إهمال النسيج السكاني الحضري، وتركيز الحلول الحضرية على "القوائم النظيفة" في الصحراء، هو جزء من استراتيجية "سينيكية" سياسياً واقتصادياً. لقد عمل نظام مبارك، من خلال الصحراء، على تحويل المشهد العام والبيئة الاجتماعية والديموغرافية القائمة الى أدوات سيطرة وتحكُّم.
على غرار النموذج الأميركي لجعل الضواحي حضرية في أعوام الخمسينيات، وبوحي من مقاولين كروبرت موسيس (الذي أعاد تنظيم نيويورك)، فإنّ المشروع الحضري الذي طبقه مبارك هدف إلى التخطيط للانسلاخ الكثيف للناس عن النواة الحضرية المندمجة التي تتميز بالغليان السياسي، إلى المدن الصحراوية الهامدة وغير المتصلة بعضها ببعض. إنّ "تمدين" الحركات الاسلامية ـ وهو ما كان من شأنه ملء الفراغ الذي خلّفه غياب الدولة في بعض المناطق العشوائية ـ جعل من هذه المهمة أكثر إلحاحاً. ويقول مؤرخ مدينة القاهرة، نزار الصياد، في كتابه "القاهرة: تواريخ مدينة" (Cairo Histories of a City)، "في بعض الأحياء كإمبابة، التي تتألف من مساكن عامة خربة، تحيط بها مساكن عشوائية، نجح مناضلو المنظمات الإسلامية، كـ"الجماعة الإسلامية"، في اختراق النسيج الاجتماعي للمنطقة وإعادة تنظيمها". وقد تبيّن أنّ مبارك كان محقاً في الخوف من الكثافة السكانية الكبيرة، ومن صعود الحركات الاجتماعية بين الفقراء الحضريين.
إلا أنّ مبارك والمقرّبين منه كانوا مشتتين. لم يكن خلق المدن الصحراوية مجرد آلية سياسية دفاعية من قبل النظام، بل كان أيضاً فرصة لجني الكثير من الأموال. في أعوام التسعينيات، ورغم أن النظام واصل سياسته في محاولة إرسال الفقراء الحضريين إلى مدن صحراوية، اتُخذت مقاربة أكثر رأسمالية في بناء المساكن هناك للطبقات الوسطى والعليا في الصحراء. هكذا ظهرت مشاريع "دريم لاند" و"يوتوبيا" و"هايد بارك" و"مدينتي" و"بيفرلي هيلز"، وجميعها مشاريع سكنية خاصّة مسوّرة للطبقات الوسطى والثرية.
لقد تمّ بيع الأرض لمقاولين غالباً ما كانوا مرتبطين بنخب حكومية. وتمّ ذلك بقيمة أدنى من قيمتها المتداولة في السوق، ثم شيّدت الدولة البنية التحتية للمشاريع الخاصة وذلك بتكاليف هائلة على حساب دافعي الضرائب. وقد ترافق ذلك مع إصلاحات نيوليبرالية حرفت استثمارات الدولة بعيداً عن التصنيع والمخابز والرعاية الاجتماعية والبنى التحتية، لتضعها بين أيدي المموّلين ومصانع الاسمنت والحديد ومشاريع البنى التحتية الهائلة في المناطق الهامشية ذات الكثافة السكانية المنخفضة في المدينة. وكتب المتخصّص في الشؤون الحضرية دايفيد سيمز في كتابه "فهم القاهرة: منطق مدينة خارجة عن السيطرة" Understanding Cairo: The logic of a city out of control: "الشك لا مفر منه في أنّ السبب الحقيقي خلف بناء المدن الجديدة ومشاريع أخرى في الصحراء حول القاهرة هو توسيع حدود المضاربات (العقارية)، وسدّ النقص فيما يتعلق بموارد الأراضي اللازمة لسيطرة الدولة، ومواصلة خلق الشروط لمشاريع خاصة مربحة تحمل قيمة قليلة من حيث الفائدة أو لا تحمل أي قيمة حتى".
إنّ نتيجة تجاهُل قيمة الفائدة للمدن الصحراوية هي تصحير للنسيج الحضري. الحضريون الفقراء الذين طردتهم الدولة من وسط المدينة إلى الأطراف، يعودون سريعاً مجدداً إلى وسط المدينة. 64 في المئة من الوحدات السكنية في "القاهرة الجديدة"، بحسب دايفيد سيمز، هي فارغة أو مقفلة. الآلاف من المنازل تمّ بناؤها لأشخاص لا يملكون وظيفة تسمح لهم بالمحافظة على هذه المنازل، وتمّ شقّ أميال من الطرقات لأشخاص لا يملكون سيارات كي يقودوها على هذه الطرقات. ورغم أزمة ازدحام السير الرهيبة في القاهرة، فهناك فقط 14 في المئة من السكان يملكون سيارات. في الاقتصاد المصري، وعلى جميع المستويات، الشبكات الأسرية والمجتمعية بالغة الأهمية بالنسبة لفرص العمل. ومن يمكنهم التخلي عنها والعيش على هامش المدينة قلة. كما هم في الواقع قلةٌ مَن يمكنهم مِنَ الفقراء الحضريين الانتقال إلى الضواحي، ولو أرادوا ذلك.
إن إعادة توجيه الاستثمار من وسط المدينة إلى الأطراف، خلق ظروفاً حضرية كارثية لسكان المدينة. لكن بالنسبة لمن يمسكون بالسلطة وللمستثمرين، فقد أنتج ذلك ما سمّاه العالِم الجغرافي نيل سميث "فجوة الإيجار": "إنه مساحة، حيث التحسين يطرأ في مناطق حضرية يخلق فيها سحب الاستثمارات الجارية على البنى التحتية الحضرية، أحياء من شأن إعادة تطويرها أن يكون مربحاً". تحصل "فجوة الإيجار" حين يستثمر مسثتمرون ومتعهدو بناء على صعيد واسع في مناطق أحوالها متدهورة على قاعدة الفارق بين الايجار الحالي والقيمة المحتملة للايجار بعد إعادة التأهيل. والسكان الأساسيون يتمّ إخراجهم من هذا الاستثمار الجديد، وبالتالي يتمّ تشريدهم.
لقد تحقّقت "فجوة الإيجار" في إنتاج الحكومة مشاريع قبل 25 كانون الثاني/يناير 2011، التي تبلغ تكلفة اعداد الوثائق لاثنين من بينهما 3,5 مليون دولار مرتين (كمشروع ""Cairo vision 2050 الذي تحوّل إلى "Vision of Cairo 2050"). لقد أدّى الاقتراح الفائز بمشروع إعادة تطوير وسط القاهرة إلى خلق مساحة شبه مخصصة للطبقات البورجوازية تملأها الأبراج المبنية على طراز أبراج دُبي، والفنادق الفخمة، والمتاحف المفتوحة في الهواء الطلق، والحدائق العامة الخضراء. بحسب هذا المشروع، ستتم إعادة تكوين ميدان التحرير ليكون واجهة تاريخية تملأها المتاجر والمطاعم ومحال التسلية والنشاطات الثقافية.
ووفق هذا التصور، فمن الواضح أن السكان الحاليين لوسط القاهرة سيغيبون عن وسط العاصمة في 2050. في الواقع، تحت عنوان "المفهوم الرئيسي للرؤية"، تمّت إحاطة كلمة القاهرة بدائرة حمراء، ووضعت أسهم كبيرة على وسط الشعار الذي يشير إلى النية بـ "إعادة توزيع السكان في كل المنطقة". في اللحظة التي وضع فيها الأثرياء والأقوياء مخططاً لتعميم فكرة تشريد وانتزاع ملكية الآلاف من سكان القاهرة، وفي اللحظة التي اكتمل فيها المشروع النيوليبيرالي القائم على التقسيم الاجتماعي للقاهرة، اتّحدت المدينة المكتظّة سكانياً في ثورة مفتوحة من قلب المدينة.
تقدّم فقراء المدينة، وتحديداً هؤلاء الذين جابهوا العنف والتشرد وانتزاع ممتلكاتهم، المسيرة نحو ميدان التحرير. وخروج مدن كبولاق وشبرة كان حاسماً في تسهيل ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. هذه الحركة غير المنظمة التي قامت للمطالبة باستعادة المدينة، وبإعادة وصل النسيج الحضري فيها، رغم الوجود الملموس للدولة ولرأس المال فيها، كانت حاسمة في إعطاء الطابع الجاذب لميدان التحرير.
لقد تمّ بناء مساحة معادية لمبارك من خلال اندماج الأجساد في ميدان التحرير وفي الساحات العامة على طول البلاد. لم تكن هذه مجرّد مساحة للنفي والسلبية، بل جسّد ميدان التحرير مساحة لمرحلة ما بعد مبارك وإعادة إحياء وسط المدينة لتحويله من مكان ممنوع على العامة، إلى مساحة سياسية ناشطة. لقد عطّل سكّان القاهرة النظريات الموضوعة حول من يتولى تشكيل المدينة. لكن فلول النظام يعملون جاهدين لضمان ألّا تنتشر صورة بديلة عن مستقبل مصر. تشير التقارير إلى أن الوكالة الحكومية المصرية "الهيئة العامة للتنظيم العمراني" تحضّر للصورة العمرانية للقاهرة عام 2052! رغم ذلك، وفي حين يخلق فلول النظام صورتهم المستقبلية المتخيّلة، وذكرياتهم الماضوية، يبقى الحقّ بالسكن في المدينة حاضراً.
[نشر هذا المقال باللغة الإنكليزية على "جدلية" وقام ملحق "السفير العربي" بترجمته ونشره]